أهمية أخذ الاستراحة في تعزيز الإنتاجية
اعتقَدَ البشر في السابق أنَّ الاستراحة مضيعة للوقت، لكن تبيَّن فيما بعد أنَّها عامل أساسي لتعزيز الإنتاجية.
الحاجة الفسيولوجية للاستراحة
يسير العالم بأسره وفق إيقاع مخصص يتجلى في شروق الشمس وغروبها يومياً، والمد والجزر، وتعاقب الفصول، وتتبع جميع الكائنات الحية على هذا الكوكب، بما في ذلك البشر، إيقاعات محددة بين النشاط (صرف الطاقة) والراحة (تجديد الطاقة)، وأبرزها النظم اليوماوي أو إيقاع الساعة البيولوجية (circadian rhythm).
النظم اليوماوي
هو دورة تتكون من 24 ساعة، فهي تشغل أوقات اليقظة وصرف الطاقة 16ساعة منها، في حين يُقدَّر عدد ساعات النوم التي يجري خلالها تجديد الطاقة ما يقارب 8 ساعات، بالتالي يقلل الإخلال بإيقاع الساعة البيولوجية الناتج عن السهر طوال الليل مثلاً الإنتاجية، فلا يعد النظم اليوماوي الإيقاع الوحيد الذي يؤثر في حياتنا؛ إذ تتغير طاقتنا خلال ساعات استيقاظنا أيضاً، كحالة الخمول التي تصيبنا في فترة ما بعد الظهر.
أحد الإيقاعات المسؤولة عن ذلك هو النظم فوق اليومي (ultradian rhythm)، فيشرح المؤلفان "توني شوارتز" (Tony Schwartz) و"جيم لوهر" (Jim Loehr) آلية عمله في كتابهما "قوة التفاعل التام" (The Power of Full Engagement) كما يأتي:
"تغيِّر هذه الإيقاعات التي تحدث أكثر من مرة في اليوم مستويات الطاقة على مدار اليوم، فترتفع المقاييس الفسيولوجية، مثل: ضربات القلب، ومستويات الهرمونات، والتوتر العضلي، ونشاط موجات الدماغ في الجزء الأول من الدورة، وهذا ما يحدث عند اليقظة أيضاً. تنخفض هذه المقاييس بعد ساعة تقريباً، ففي وقت ما بين 90 و120 دقيقة، تبدأ أعراض التعب وحاجة الجسم للراحة وتجديد الطاقة، وهي تشمل الرغبة في التثاؤب والاستطالة، وشعور مفاجئ بالجوع، وزيادة التوتر، وصعوبة التركيز، والتسويف، والشرود الذهني، وزيادة احتمال ارتكاب الأخطاء".
النظم فوق اليومي هو دورة تتكرر عدة مرات على مدار اليوم، فيبلغ الأداء ذروته، وتزداد اليقظة والتركيز والإبداع والمرونة العاطفية والقوة الذهنية لمدة 90 دقيقة تقريباً، ثم يحتاج الجسد للراحة وتجديد الطاقة لقرابة 20 دقيقة.
تعد طاقة البشر محدودة، ولسنا مجبرين على العمل لفترات طويلة من الزمن؛ بل نعمل عندما نتبع إيقاعاتنا الطبيعية، التي تتضمن فترات من النشاط (صرف الطاقة)، تليها فترات من الراحة (تجديد الطاقة).
دور الراحة في رفع الإنتاجية
كشفَت دراسة أجراها تطبيق "ديسك تايم" (Desktime) لتتبُّع الوقت أنَّ الأشخاص المنتِجون، يعملون لمدة 52 دقيقة، ثم يأخذون استراحة لمدة 17 دقيقة، كما أنَّ الموظفين الذين سجلوا أعلى معدلات إنتاجية، لا يعملون 8 ساعات حتى يومياً. لا يكمن سر الحفاظ على أعلى مستوى من الإنتاجية في العمل لفترة أطول؛ بل بمزيدٍ من الكفاءة، مع أخذ فترات راحة متكررة.
يعود السبب الذي يتيح للموظفين المنتجين إنجاز أقصى قدر من العمل خلال فترات العمل القصيرة نسبياً، والتي تبلغ قرابة 52 دقيقة، إلى أنَّهم يعملون بتركيز عال دون أية مقاطعات.
إنَّ السر وراء زيادة الإنتاجية إلى الحد الأقصى وفقاً للدراسة السابقة هو العمل بتركيز وإتقان لفترات قصيرة من الوقت، ثم أخذ استراحات متكررة لاستعادة الطاقة.
لاحظَ الباحث "ك. أندرس إريكسون" (K. Anders Ericsson)، أنَّ أصحاب الأداء المتميز في مجالات الفن والموسيقى والرياضة، يتدربون عادةً في جلسات متواصلة مدتها 90 دقيقة، فيبدؤون صباحاً، ويأخذون استراحات منتظمة بين الجلسات، ويعملون قرابة 4 ساعات ونصف في اليوم فقط، ولكن بتركيز عالٍ ومجهود مدروس؛ أي لا يكمن سر الأداء العالي في العمل لفترة أطول؛ بل بذكاء أكبر.
آلية زيادة الإنتاجية إلى أقصى حد
يتطلب العمل، مثل أصحاب الأداء العالي وبلوغ ذروة الإنتاجية اتباع الخطوتين التاليتين:
- العمل بتركيز عالٍ وإنجاز أكبر قدر من المهام خلال جلسات قصيرة.
- أخذ فترات راحة منتظمة بين جلسات العمل لتعويض الطاقة.
يوجد خياران لا ثالث لهما: إمَّا أن تعمل بأقصى جهد وتركيز واندماج كامل، أو تأخذ استراحة لتجديد طاقتك، فلا ينبغي العمل لساعات طويلة، ولا أخذ استراحة قبل انقضاء الوقت المخصص للعمل.
المدة المناسبة لجلسات العمل وفترات الراحة
اعمَلْ لمدة 90 دقيقة، تليها استراحة لمدة 15 دقيقة؛ ولكن يجد بعضهم صعوبة في تطبيق هذه الآلية بسبب ظروف عملهم التي تتطلب حضور الاجتماعات والاستجابة لمقاطعات الزملاء.
افصِلْ العمل عن الراحة، وخصِّصْ فترات للعمل وأخرى للراحة دون أن تخلط بينهما، فقد تستمر جلسة العمل أحياناً لمدة 30 دقيقة فقط، أو ربما 80 دقيقة، أو حتى تمتد لساعتين. قد تستمر بعض فترات الراحة لمدة 10 دقائق أو حتى 40 دقيقة فقط، فالأمر ليس معقداً، ولا يتطلب سوى تخصيص فترات للعمل وأخرى للراحة والالتزام بها، مما يزيد الإنتاجية والطاقة.
4 استراتيجيات لتحقيق أقصى استفادة من جلسات العمل
1. بذل أكبر قدر من الجهد
ركِّزْ كلياً خلال جلسات العمل القصيرة نسبياً، وابذل أقصى جهد دون إبطاء أو توقُّفٍ، بالتالي تُنجِز قدراً كبيراً من المهام خلال فترة زمنية قصيرة، وتزيد القدرة على العمل بهذه السرعة والكفاءة بسبب المجهود الكبير الذي تبذله، مما يعزز مستويات الطاقة ويركِّز على الإنتاجية بمرور الوقت.
2. التخلص من المشتتات
تجنَّب استخدام الهاتف المحمول، أو تصفُّح رسائل البريد الإلكتروني أو مواقع التواصل الاجتماعي، أو إجراء المكالمات خلال الأوقات المخصصة للعمل؛ إذ إنَّ الهدف الوحيد من جلسات العمل القصيرة هذه هو الوصول إلى حالة التدفق الذهني وإنهاء أكبر قدر ممكن من العمل بعيداً عن أي تشتيت، وإلَّا لن تنجز العمل المطلوب، ولن يتحسن تركيزك وقدرتك على العمل بجد لفترات محددة.
3. التركيز على مهمة واحدة
تبيَّنَ أنَّ تعدُّد المهام، يقلِّل الإنتاجية بنسبة 40%، ويقلِّص حجم الدماغ، ويخفِّض معدل الذكاء مؤقتاً؛ لذا من الأفضل الالتزام بالعمل على مهمة أو مشروع واحد فقط لفترة من الوقت.
يعد التبديل بين المهام أفضل من القيام بعدة أعمال دفعة واحدة، ولكن لا يُنصَح به أيضاً؛ لأنَّه يضعف القدرة على الانتباه نتيجة استمرار التفكير والتركيز على النشاط السابق.
تُدعى هذه الحالة "بقايا الانتباه" (attention residue)، وهو مصطلح صاغته الباحثة "صوفي ليروي" (Sophie Leroy)، فهي تقول إنَّ التبديل بين المهام يؤدي غالباً إلى إضعاف الأداء في المهمة التالية.
4. أخذ فترات راحة قصيرة كل 20 دقيقة
تبيَّن أنَّ الدماغ لا يركِّز على مهمة واحدة دون مقاطعة لأكثر من 15 إلى 20 دقيقة، فأظهرت دراسة أعدَّتها مجلة "كوغنيشن" (Cognition) أنَّ قدرة الدماغ على التركيز أو اليقظة لفترة أطول، تزداد عند التفكير في موضوع مختلف كل 20 دقيقة، بالتالي يقول عالم الأعصاب "مارك والدمان" (Mark Waldman) في هذا السياق:
"بيَّنت أبحاثنا أنَّ أخذ 2-3 استراحات كل ساعة للاسترخاء أو التأمل أو القيام بشيء ممتع، حتى لو كان ذلك لمدة 10 ثوانٍ، يقلل التوتر، ويعزز الوعي والتركيز والإنتاجية".
يُنصَح بأخذ استراحة قصيرة مدتها 10 إلى 120 ثانية كل 20 دقيقة تقريباً، وفيما يأتي بعض الأمور التي يمكن القيام بها:
- أخذ بضعة أنفاس عميقة.
- التثاؤب والتمدد.
- النظر إلى الطبيعة (خارج النافذة أو تأمُّل صور المناظر الطبيعية).
تمنح هذه النشاطات الثلاثة الراحة للدماغ وتجدد نشاطه.
كيفية تحقيق أقصى استفادة من فترات الراحة
يتميز لاعب كرة المضرب المحترف عن نظيره العادي في قدرته على تحقيق أقصى فائدة ممكنة من خلال فترات الراحة بين النقاط.
اكتشفَ "توني شوارتز" و"جيم لوهر" أنَّ أفضل اللاعبين يخفِّضون معدل ضربات القلب بين النقاط بما يصل إلى 20 نبضة في الدقيقة، وبالتالي يحافظون على طاقتهم في الجولات التالية، بينما يبقى معدل ضربات قلب اللاعبين العاديين كما هو؛ لأنَّهم لم يستفيدوا من فترات الراحة.
تحقق زيادة الإنتاجية أقصى استفادة من فترات الراحة، ولا يمكن تحقيق ذلك من خلال مشاهدة التلفاز أو قراءة الأخبار أو تصفح وسائل التواصل الاجتماعي؛ بل يُفضَّل اختيار أحد النشاطات التالية:
- ممارسة الرياضة.
- التنزه في الطبيعة.
- تحسين المزاج.
- التأمل.
تعزز جميع هذه النشاطات الإنتاجية.
في الختام
نلخص أهم ما جاء في هذا المقال بأنَّ الفرد يقدم أداءً أفضل عندما يتبع إيقاعات جسده الطبيعية، وذلك بتخصيص فترات للعمل الجاد تليها استراحات لتجديد الطاقة. هذا السر معروف لدى أصحاب الأداء المتميز في مختلف المجالات، فلا يعملون لأكثر من 90 دقيقة في الجلسة الواحدة، ويأخذون فترات راحة بين الجلسات، ونادراً ما يزيد عملهم عن أربع ساعات ونصف في اليوم.
وأخيراً، تُعزَّز الإنتاجية من خلال العمل بتركيز لمدة تتراوح بين 60 و120 دقيقة تقريباً، ثم أخذ استراحة لاستعادة الطاقة لمدة تتراوح بين 10 و30 دقيقة.
کن على إطلاع بأحدث المتسجدات
