الرفق بالنفس: لماذا يواجه بعضهم صعوبة في ممارسته؟
تدرك فوائد الرفق بالنفس والمنفعة التي يمكن أن يجلبها لحياتك المهنية والشخصية، ومع ذلك فأنت تفرط في التفكير بعد كل مهمة تنجزها وكل تقرير تسلِّمه، قلقاً من جودة عملك.
تقتضي أحد تمرينات الرفق بالنفس التالي: فكِّرْ في شيء يزعجك حول نفسك، ثم اكتب رسالة لنفسك بلسان صديق متعاطف، أو يمكنك أن تتخيل صديقاً متعاطفاً يواسيك في معاناتك، وهناك تمرين يواجه الأصوات النقدية في رأسك.
يمكنك استخدام أسلوب الصديق المتعاطف الآن ليطمئنك بشأن تقريرك، فتخيَّل صديقاً يجلس بجانبك، ويطمئنك بكلماته: "لا بأس، لقد بذلت قصارى جهدك في التقرير وهذا كل ما يمكنك أن تطلبه من نفسك، وسيكون كل شيء على ما يرام"، لكنَّ كلمات صديقك المتخيَّلة تبدو جوفاء ولا تحسِّن مزاجك؛ بل تزيدك شعوراً بالسوء، بالتالي تسترجع تلك اللحظة التي قدَّمت فيها تقريراً لم يعجب مديرك، مما يجعلك أكثر اقتناعاً الآن بأنَّ تقريرك الحالي ليس بالمستوى المطلوب.
من خلال القيام بهذه التمرينات الذهنية، لقد اختبرت للتو ما يسميه الباحثون بـ "الارتداد العاطفي" في مجال الرفق بالنفس أو التعاطف مع الذات، فهو يحدث عندما تحاول أن تكون متعاطفاً مع نفسك، فتواجه مشاعر سلبية مكبوتة وينتهي بك الأمر في حال أسوأ، وهذا جزء طبيعي في رحلة الرفق بالنفس كما يقول "كريس جيرمر" (Chris Germer)، عالم النفس السريري والمحاضر في قسم الطب النفسي "بكلية هارفارد الطبية" (Harvard Medical School) والذي طوَّر مع الباحثة "كريستين نيف" (Kristin Neff) برنامجاً يسمى "التعاطف الذاتي اليقظ" (Mindful Self-Compassion).
تُشعِرك ممارسة الرفق بالنفس بالسوء أو عدم الراحة تجاه فكرة أن تحب نفسك، ولكن لحسن الحظ، هناك طرائق أخرى لا تتطلب التركيز على الأفكار الإيجابية والمطمئنة خلال الظروف الصعبة.
كيف يمكن للرفق بالنفس أن ينقلب ضدك؟
يخاف 40% تقريباً من الأشخاص من الرفق بالنفس أو ينفرون منه نتيجة نمط التعلق غير الآمن مع والديهم في مرحلة الطفولة؛ إذ يستجيب الوالدان لاحتياجات الطفل في العلاقات الآمنة، فينمو هذا الطفل وسط بيئة صحية تُشعره بالأمان، أمَّا في العلاقات غير الآمنة، فإنَّ الوالدين لا يستجيبان لإشارات الطفل العاطفية في كثير من الأحيان، فقد يكون الوالد بعيداً أو غاضباً أو مكتئباً في غالب الأحيان، فلا يتمكن من الاستجابة جيداً، فينمو هؤلاء الأطفال مع نزعة قلق بداخلهم بشأن العالم.
درسَ "بول غيلبرت" (Paul Gilbert)، عالم النفس السريري ومؤسس العلاج الموجَّه تجاه التعاطف، العلاقة بين نمط التعلق والخوف من الرفق بالنفس، ونتيجةً لذلك وصف "غيلبرت" نظامين لتنظيم المشاعر، وأسماهما نظام الرضى ونظام التهديد، وهما يرتبطان مباشرة بنمط تعلق الفرد.
يمنح نظام الرضى الأطفال الذين يترعرعون في بيئات آمنة شعوراً بالدعم من الآخرين، ويساعدهم على تكوين ذكريات عاطفية مشبعة بالأمان والدعم، ويمكن تنشيطها بعد ذلك من خلال الرفق بالنفس، فالأفكار يمكن أن تحفز الذكريات العاطفية؛ لذلك فإنَّ مجرد التفكير في أحضان أمٍّ متعاطفة يمكن أن يهدِّئ البالغين إذا كانوا محظوظين بما يكفي ليحظوا بأمٍّ عانَقَتهم في لحظات خوفهم، بينما لا يحصل الأطفال الذين ينشؤون في بيئات غير آمنة على شعور الأمان والطمأنينة نفسه، وليس لديهم المخزون نفسه من الذكريات العاطفية المريحة التي تُفعَّل خلال ممارسة الرفق بالنفس.
يعدُّ "غيلبرت" أنَّ أسوأ ما في الأمر هو أنَّ الأطفال من الفئة الثانية يطورون "أنظمة استشعار تهديد" نشطة للغاية، فيمكن أن يُعِدُّ هذا الطفل أية لفتة تعاطف طبيعية تهديداً مباشراً، بينما يرتاح لها البالغ الذي نشأ في بيئة آمنة.
يعالج الآباء الغاضبون حزن طفلهم بالتجاهل والعبوس بدلاً من التعاطف؛ إذ تهدد تجارب الرفض شعور الطفل بالأمان الاجتماعي، وتفعِّل لديه نظام التهديد.
قد يعِدُّ الأطفال الذين لديهم أنظمة تهديد نشطة الحاجة إلى التعاطف علامة على ضعفهم، فتسير العملية كالتالي: يطلب الطفل التعاطف من والديه عن طريق البكاء مثلاً، فيُقابل بالاشمئزاز من ضعفه بسبب حاجته للتعاطف، ويطوِّر هذا الطفل نمط تعلق غير آمن عندما يكبر، ويتعود على رفض التعاطف، سواء من نفسه أم من الآخرين.
لنفترض أنَّ هذا البالغ شعرَ بالحزن، فاقترب منه صديق داعم ليقدِّم له التعاطف، ماذا ستكون النتيجة؟ سوف ينفر هذا الشخص من التعاطف المعروض، معتقداً أنَّ الصديق يراه ضعيفاً، فيعتقد هذا الشخص أنَّ الضعفاء وحدهم مَن يحتاجون للتعاطف، وقبوله عطف الآخرين يعني أنَّه ليس قوياً بما يكفي للتعامل مع الموقف.
تصرِّح عالمة النفس "ديريكا بويكين" (Derricka Boykin) وزملاؤها في دراسة عام 2018 أنَّ هؤلاء البالغين، يقاومون أي تعبير عن التعاطف بسبب القلق من الرفض أو النقد القاسي أو الشعور بعدم الاستحقاق.
ابتكرَ "غيلبرت" استبياناً لقياس شدة الخوف من الرفق بالنفس؛ إذ يمكننا إدراك المخاوف المختلفة التي يشعر بها الناس تجاه الرفق بالنفس من خلال الاطلاع على العبارات المختلفة في الاستبيان:
- "أخشى أن تنخفض معاييري إذا أصبحت أكثر لطفاً وأقل انتقاداً لنفسي".
- "أخشى أن أصبح ضعيفاً إذا أصبحت أكثر رفقاً بنفسي".
- "أخشى أن يرفضني الآخرون إذا أصبحت أكثر رفقاً بنفسي".
لا تكون ممارسة التمرينات العقلية البسيطة كالاسترخاء والرفق بالنفس أفضل نهج بالنسبة للأشخاص الذين يعانون خوفاً مفرطاً من الرفق بالنفس، مثل أصحاب نمط التعلق غير الآمن، وكذلك الناجين من الإساءة والنساء المصابات باضطرابات الأكل.
الرفق بالنفس السلوكي
يقول "غيلبرت" إنَّ الممارسات الذهنية يمكن أن تُحيي الصدمة، فقد تشعر بمزيد من القلق إذا حاولت مساعدة نفسك من خلال القول بأنَّه من المقبول الشعور بالحزن؛ لأنَّ الفكرة المغروسة في ذاكرتك العاطفية تقول إنَّ الحزن غير مقبول (حتى لو لم تكن واعٍ لذلك)؛ لذلك فالبديل هو اعتماد الرفق بالنفس السلوكي، أو معرفة ما تحتاجه لتشعر بالراحة حالاً، فيمكن أن يكون ذلك قضاء بعض الوقت مع حيوانك الأليف أو أخذ استراحة قصيرة من العمل.
يعتقد "جيرمر" في هذا الصدد بأنَّ "الجميع يحتاج إلى تخصيص ممارسة الرفق بالنفس وفقاً لاحتياجاتهم الفردية وظروف حياتهم، ولكن عامةً يكون الرفق بالنفس السلوكي أكثر أماناً من التمرينات الذهنية."
قد يكون من الصعب تحفيز الذات لممارسة الرفق بالنفس السلوكي أو حتى معرفة ما نحتاجه عندما نكون مضطربين، فيطرح "جيرمر" أسئلة محددة، مثل:
- ماذا أحتاج لأشعر بالأمان؟
- ماذا أحتاج لأكون مرتاحاً، أو مطمئناً، أو أشعر بالقبول في مجتمعي؟
- ماذا أحتاج لحماية نفسي، أو توفير ما أحتاجه، أو تحفيز نفسي؟
يدعونا "جيرمر" إلى التفكير في ممارسات الرعاية الذاتية التي نطبِّقها في حياتنا؛ لكي نعززها ونلتزم بها، فقد تعتني بنفسك جسدياً من خلال ممارسة الرياضة أو الاستمتاع بحمَّام دافئ، وربما تعتني بنفسك ذهنياً من خلال مشاهدة فيلم مضحك، أو عاطفياً من خلال الكتابة في مذكراتك أو الطهو.
قد يكون من الصعب أحياناً معرفة كيف تهدِّئ نفسك وتريحها وتحافظ على عافيتك في الوقت نفسه، ونادراً ما يقاوم شخص ما رغبته بتناول الحلوى عندما يكون متوتراً، أو يفكر بأخذ حمَّام دافئ بدلاً من تناول ما يضر صحته.
يعتقد "جيرمر" أنَّ الأمر يحتاج بعض الوقت، فيطور الإنسان قدرته على الرفق بالنفس تدريجياً؛ لأنَّه سيكون من الصعب معرفة الطريق الصحيح حالاً لممارسة الرفق بالنفس السلوكي، ويقول: "لا يمكننا أن نصبح أكثر رفقاً بأنفسنا بلحظة، فهي ممارسة تتطلب الوقت والتدريب"، ويقترح أن تأخذ خطوة للخلف عندما تفكر فيما تحتاجه، وأن تسأل نفسك مرة أخرى عمَّا تحتاجه حقاً على أمل تجنُّب بعض الخيارات الأقل صحة.
هذه الممارسات السلوكية مناسبة عندما تحتاج إلى ترسيخ شعور الأمان في ممارسة الرفق بالنفس، فالأمان النفسي هو الشعور بأنَّك قادر على طرح أفكارك، وارتكاب الأخطاء، وتحمُّل المخاطر دون القلق من أنَّك ستتعرض للإذلال أو السخرية، فعندما تشعر بالأمان الكلِّي وتتخلص من أية مشاعر تخبرك بأنَّك ستتعرض للهجوم، يكون الوقت مناسباً للانتقال من التمرينات السلوكية فقط إلى التمرينات الذهنية أيضاً، ويفضَّل أن تمارسها تحت إشراف خبير وليس بمفردك.
الرفق بالنفس بوصفه ممارسة جماعية
تشير الأبحاث إلى أنَّه قد يكون من الأفضل القيام بالتمرينات الذهنية لتحفيز للرفق بالنفس أمام مرآة إذا كنت ستقوم بها لوحدك، كما تشير أحد الدراسات الحديثة إلى أنَّ تكرار عبارات الرفق بالنفس أمام المرآة كان لها تأثير أكبر من تكرار العبارات نفسها دون مرآة. يعتقد الباحثون أنَّ السبب يعود لكون المرآة تتيح لنا رؤية وجهنا وعيوننا، وهما عنصران هامان في الطريقة التي نتواصل ونتعاطف بها.
يجب عدم ممارسة ذلك بمفردك على الإطلاق، ويؤكِّد "جيرمر" ذلك بقوله أنَّ الرفق بالنفس يميل لأن يكون رياضة جماعية، وبالرغم من أنَّه نوع من العناية الذاتية، إلا أنَّه من الأفضل ممارسته ضمن مجموعة. تزداد قدرة الفرد على مواجهة الصعوبات عندما يقابل أشخاصاً تخطَّوها، كما تعدُّ برامج الرفق بالنفس وسيلة للانخراط ضمن مجتمع.
يشدِّد "جيرمر" على أهمية النوايا والدوافع لممارسة الرفق بالنفس؛ لأنَّها عامل حاسم في نجاح تلك الممارسات، فيعتقد أنّه يجب ممارسة الرفق بالنفس لأجل الرفق بذاته، وليس لدحض العوامل السلبية التي تسبب معاناتنا، ويعتقد أنَّ النوايا الصحيحة يجب أن تكون كالتالي: "نحن نرفق بأنفسنا عندما نعاني لأنَّنا نشعر بالسوء، وليس لكي نشعر بحالٍ أفضل".
يؤكد "جيرمر" أنَّ محاولتنا للتخلص من مشاعرنا السلبية في اللحظة الراهنة ستفشل، فيجب أن تكون ممارسة الرفق بالنفس غاية بحد ذاتها وليست وسيلة للتلاعب بالمشاعر، ويعطي مثالاً: "نحن نهتم بالطفل المصاب بالزكام بوصفه تعبيراً بسيطاً عن التعاطف واللطف، ليس لمعالجة الزكام".
في الختام
يعدُّ الرفق بالنفس واحداً من أهم الأدوات التي يمكننا استخدامها لتعزيز صحتنا العقلية والعاطفية، وإنَّ الاهتمام بذواتنا ليس مجرد رفاهية؛ بل ضرورة لمواجهة التحديات اليومية وتحقيق النجاح في حياتنا الشخصية والمهنية.
من خلال اعتماد تقنيات الرفق بالنفس السلوكية، والاستفادة من الذكريات العاطفية الإيجابية نبني أساساً قوياً للرفاهية الداخلية، فيجب أن نتذكر دائماً أنَّ العناية الذاتية هي قوة حقيقية تمكننا من التعامل مع العالم بثقة وإيجابية، وهي خطوة أساسية تجاه تحقيق السلام الداخلي والسعادة الحقيقية.
کن على إطلاع بأحدث المتسجدات
