يُعد مكان العمل الحديث بيئةً محفوفةً بالتحديات والضغوط؛ حيث يسعى القادة والموظفون إلى الوفاء بالمواعيد النهائية الصارمة، والتعامل مع التغيرات في الأولويات، بالإضافة إلى الصعوبات المرتبطة بعمليات التوظيف، وضمان تحقيق أعلى مستويات من الإنتاجية والجودة. تدفع هذه المتطلبات المتزايدة الأفراد إلى بذل جهود مضاعفة، مما يعرضهم للإرهاق النفسي والجسدي مع مرور الوقت.

كشفت الأبحاث أنَّ ممارسة التعاطف الذاتي، وهو معاملة النفس بلطف وتفهُّم في حالات العجز أو المعاناة، تخفف التوتر، وتعزز السلامة النفسية والأداء والرضا الوظيفي. يبحث المقال في مفهوم التعاطف الذاتي وفوائده في بيئات العمل.

تعريف التعاطف الذاتي

تُعرِّف الدكتورة "كريستين نيف" (Kristen Neff) التعاطف الذاتي بأنَّه إبداء العطف تجاه النفس في حالات العجز أو الفشل أو المعاناة، وتشير إلى أنَّه ينطوي على 3 ركائز رئيسة: الرحمة تجاه الذات بدل انتقادها، والإنسانية المشتركة بدلاً من العزلة، واليقظة الذهنية بدلاً من ربط منظومة القيمة بالدور المهني.

يختلف التعاطف الذاتي عن تقدير الذات في أنَّه لا يتطلب مدح النفس أو إنكار الأخطاء، بحيث يعطف المرء على نفسه حتى عند الإخفاق والعجز. يقتضي التعاطف الذاتي إدراك أنَّ المعاناة جزء من التجربة الإنسانية المشتركة، ولا تحدث لشخص بمعزل عن غيره، وملاحظة المشاعر دون توجيه الانتقادات، وعدم الاستسلام للعواطف السلبية أو تعنيف الذات.

3 فوائد للتعاطف الذاتي

1. تخفيف التوتر وتحسين السلامة النفسية

أظهرت مجموعة من الأبحاث دور التعاطف الذاتي في تخفيف التوتر؛ حيث يؤدي التعامل مع النفس بلطف وتفهم بدلاً من النقد الذاتي القاسي خلال الأوقات العصيبة إلى تقليل مستويات هرمون التوتر الكورتيزول. ساعد ممارسة التعاطف الذاتي أيضاً في تخفيض القلق والاكتئاب والكمالية العصابية (neurotic perfectionism) وكبت الأفكار.

كما أظهرت العديد من الدراسات أنَّ التعاطف الذاتي يسهم في زيادة الرضا عن الحياة، والتأثير الإيجابي، والمبادرة الشخصية، والذكاء العاطفي، والتي تدل جميعها على السلامة النفسية؛ إذ يساعد التعاطف الذاتي الموظفين في تحسين صحتهم، ورفع مستوى سعادتهم، واستعدادهم لمواجهة الصعوبات من خلال تخفيف التوتر وتعزيز السلامة النفسية.

2. تحسين الأداء والإنجاز

يحسِّن التعاطف الذاتي الأداء في العمل بعدة طرائق منها:

  • زيادة الدافع: يندفع المرء لتطوير نفسه عندما لا يسمح لمشاعر الفشل أو العجز بالنيل من عزيمته. يذكِّرنا التعاطف الذاتي بأنَّ الإخفاق والوقوع في الأخطاء جزء من التجربة الإنسانية.
  • المثابرة: لا يفقد ممارسو التعاطف الذاتي ثقتهم بأنفسهم، ولا يستسلمون بسهولة في مواجهة النكسات؛ بل يستمرون في المحاولة إلى أن يحققوا النجاح.
  • الإبداع: يقوض النقد الذاتي الإبداع، بينما يعزز التعاطف الذاتي الابتكار؛ لأنَّه يتيح استكشاف آفاق جديدة دون الخوف من الانتقاد.
  • اتخاذ القرارات: يساعد التعاطف الذاتي في اتخاذ قرارات حكيمة؛ لأنَّه يتيح التفكير المتأني بالخيارات بدلاً من المسارعة في الحكم تحت وطأة الضغط النفسي.

أشارت الدراسات إلى أنَّ ممارسة الموظفين للتعاطف الذاتي يؤدي إلى تحسين مراجعات الأداء، ونسبة المبيعات، وتقييمات القادة؛ إذ تبيَّن أنَّ التعاطف الذاتي يعزز نتائج العمل نتيجة زيادة التحفيز والمثابرة والقدرة على اتخاذ القرارات.

3. تحسين العلاقات الاجتماعية

يعود الجانب الاجتماعي للتعاطف الذاتي أيضاً بفوائد على المنظمات منها:

  • الحد من الخلافات: يساعد التعاطف الذاتي في إنشاء بيئة عمل تعاونية نتيجة تقليل السلوك الدفاعي تجاه الانتقادات.
  • زيادة العطف: يتعاطف الفرد مع معاناة الآخرين عندما يدركأنَّ العيوب سمة إنسانية مشتركة بدل التركيز المفرط على الذات.
  • التواصل الداعم: يسهم التعاطف الذاتي في الحد من العدوانية اللفظية والهيمنة وخيبة الأمل.
  • الحد من عدوى التوتر: ينتقل التوتر الذي يشعر به الموظفون الذين ينتقدون أنفسهم بشدة إلى زملائهم في الفريق، بينما يخفف التعاطف من هذه التأثيرات.
  • وحدة الفريق: يعزز التعاطف الذاتي التعاون، ويقوي العلاقات بين أعضاء الفريق، مما يسهم في تحسين أدائهم.

تنمية التعاطف الذاتي في العمل

في ما يلي بعض الاستراتيجيات العملية لممارسة التعاطف الذاتي في مكان العمل:

1. التدريب على ممارسة التعاطف الذاتي

تعلِّم ورش العمل الرسمية والدورات التدريبية عبر الإنترنت مهارات التعاطف الذاتي للموظفين مثل: اللطف الذاتي، وتبنِّي مبدأ الإنسانية المشتركة، والوعي للأفكار السلبية. تقدم شركات كبيرة مثل: "غوغل" (Google) و"تارغيت" (Target) و"فيسبوك" (Facebook) برامج للتعاطف الذاتي.

2. أن يكون القادة قدوة يُحتذى بها

 يمثل كبار القادة الذين يمارسون التعاطف الذاتي قدوة للآخرين، ويدعمون نمو الموظفين؛ ويمكن الاستفادة من الاجتماعات الأسبوعية في مراجعة المشكلات والنجاحات برحمة ولطف. يدرب القادة الموظفين على تحويل الحديث الذاتي من الانتقاد القاسي إلى التعاطف.

3. التواصل بعطف

من الهام أن يتحدث القادة بصيغة الجمع للإشارة إلى أنَّ ارتكاب الأخطاء جزء من حياة الإنسان، وأن يبدوا إعجابهم بجهد الموظفين ورغبتهم في التعلم بدلاً من التركيز على النتائج التي يحققونها فقط، وأن يُصغوا إليهم دون انتقاد، ويفتحوا قلوبهم لمعاناة الآخرين.

 التواصل بعطف بمكان العمل

4. تخصيص فترات للتعاطف الذاتي

من المفيد تخصيص فترات راحة قصيرة للتأمل؛ يتصور فيه الموظفون معاملة أنفسهم بلطف، ويدركون الصعوبات التي تجمعهم، ويتقبلون العواطف الصعبة دون انتقاد.

5. مجموعات الدعم بين الأقران

تعزز هذه المجموعات التعاطف بين أعضاء فِرق العمل، بحيث يشجع الموظفون بعضهم على الرعاية الذاتية، وتقبُّل الأحداث المؤلمة التي يمرون بها.

تؤدي ممارسة هذه الاستراتيجيات الفعّالة إلى إرساء ثقافة التعاطف الذاتي التي تحسِّن المرونة والأداء تحت الضغط.

أهمية التعاطف الذاتي في مجالات العمل المختلفة

1. الرعاية الصحية

إنَّ الأطباء، والممرضين، والممرضات عُرضةٌ للتوتر المزمن، في حين يخفف التعاطف إرهاقهم، ويزيد شعورهم بالعطف تجاه المرضى. نجح أحد المستشفيات في مدينة "دنفر" (Denver) الأمريكية في خفض التوتر بنسبة 40% من خلال التدريب على ممارسة التعاطف الذاتي.

2. التكنولوجيا

تسبب معايير الأداء الصارمة في شركة "فيسبوك" (Facebook) القلق للموظفين؛ ولكنَّ التعاطف الذاتي يزيد الابتكار والشعور بالرضا تجاه العمل.

3. التعليم

يزيد التعاطف الذاتي اندماج المعلمين الذين يتعرضون للاحتراق الوظيفي في العمل، ويحفزهم على مساعدة طلابهم. كما كشفت إحدى الدراسات عن أنَّ التعاطف الذاتي يخفف توتر المعلمين أكثر من ممارسة اليقظة الذهنية.

4. المنظمات غير الربحية

يتعامل الاختصاصيون الاجتماعيون مع معاناة العملاء من منطلق الإنسانية المشتركة واللطف الذاتي، وذلك لضمان خدمتهم بلطف.

أثبتت ممارسة التعاطف الذاتي جدواها في تحسين الأداء والصحة والشعور بالشغف تجاه المهام الهامة، مما يجعلها استراتيجية مفيدة للقادة.

في الختام

يؤثر التوتر والضغط الذي يتعرض له الموظفون في أماكن العمل الحديثة سلباً في الصحة النفسية والجسدية بمرور الوقت. لكن، تُظهر الأبحاث أنَّ التعاطف الذاتي يكافح التوتر، ويعزز الأداء، ويحسن العلاقات، مما يؤدي إلى تحقيق الموظفين والمنظمات لأعلى إمكاناتهم.

إنَّ التدريب على ممارسة التعاطف الذاتي، والاقتداء بالقادة، والتواصل، وتقديم الدعم، جميعها حلول فعّالة وغير مكلفة لتعزيز مرونة الموظفين في مواجهة الضغط. إنَّه وسيلةٌ تساعد القادة في إرساء ثقافة يستطيع الموظفون من خلالها تقديم أفضل أداء في العمل دون التعرض للإرهاق. ينبغي على القادة أيضاً تعلم التعاطف الذاتي ومشاركة فوائده في المؤسسة.

کن على إطلاع بأحدث المتسجدات

اشترك واحصل على أخر المقالات والأبحاث والمنتجات التي تجعلك أقوى من أي وقت مضى.
to-top
footer1

is

illaf-train

Business.©2025