blog-details

مستقبل العمل: التوازن بين المرونة والإنتاجية والرفاه المهني

لم يعد شكل العمل في يومنا هذا كما كان عليه في تسعينيات القرن الماضي، بل إنَّه يختلف حتى عن ملامحه في العقد الأخير. فالتكنولوجيا تتطور بوتيرة غير مسبوقة، محدِثةً تغييرات جذرية في طبيعة الوظائف، والمهارات المطلوبة، وأنماط التفاعل داخل المؤسسات. فلم يعد هناك نموذج ثابت للعمل يدوم دون تغيير.

تشير الدراسات الحديثة إلى تحوّلات جوهرية في أساليب العمل. فوفقاً لتقرير صادر عن شركة "مكنزي" (McKinsey) لعام 2025، فإنَّ 90% من الشركات حول العالم اعتمدت أحد أنظمة العمل عن بُعد أو النموذج الهجين، مع وجود ما نسبته 35% من الموظفين يعملون عن بُعد بشكل كامل. في المقابل، يقدّر "المنتدى الاقتصادي العالمي" (World Economic Forum) أنَّ الأتمتة القائمة على تقنيات الذكاء الاصطناعي ستطال ما يقارب 375 مليون وظيفة حول العالم بحلول عام 2030.

في هذا السياق المتغيّر، نُلقي نظرة أعمق على مستقبل بيئة العمل، مستعرضين 3 ركائز أساسية تُشكّل ملامحه القادمة: المرونة، والإنتاجية، والرفاه المهني. كما نتناول كيفية تكيف كل من المؤسسات والأفراد مع هذه التحوّلات لبناء بيئة عمل مستدامة ومتوازنة.

مشهد العمل في عام 2025

سرّعت جائحة كوفيد-19 تحول بيئات العمل، وأصبح نموذج العمل عن بُعد أو النظام الهجين هو القاعدة الجديدة، لا الاستثناء. كما لا تزال تقنيات التحوّل الرقمي، والأتمتة، والذكاء الاصطناعي تدفع باتجاه مزيد من التغييرات، وهذا يُبرِز ضرورة التكيُّف ومواكبة التطورات.

أبرز التوجهات (Trends) الراهنة

  • نمو العمل الهجين: بحسب استطلاع أجرته مؤسسة "غالوب" (Gallup)، يفضل 52% من الموظفين نموذج العمل الهجين، الذي يدمج بين العمل من المكتب والعمل عن بُعد.
  • اتساع اقتصاد العمل الحر (Gig Economy): ساهمت منصات مثل "أب وورك" (Upwork) و"فايفر" (Fiverr) في تمكين ما يزيد عن5 مليار عامل مستقل حول العالم من العمل الحر، وقد بلغ إجمالي مساهمتهم في الاقتصاد الأميركي نحو 1.3 تريليون دولار، وفقاً لمراجعة "إم آي تي سلون مانجمنت ريفيو" (MIT Sloan Management Review).
  • زيادة الاعتماد على الأتمتة والذكاء الاصطناعي: تشير توقعات صادرة عن "برايس ووترهاوس كوبرز" (PwC) إلى أنَّ الذكاء الاصطناعي سيساهم في رفع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 14% بحلول عام 2035، إلا أنَّ هذا التقدّم سيتطلب إعادة تدريب 40% من القوى العاملة.

في ضوء هذه المتغيرات، لم يعد كافياً أن نعتمد على ما نعرفه مسبقاً. فالبقاء في دائرة الفضول الفكري، والانفتاح على الأفكار الجديدة، أصبحا من ضروريات التكيّف والنجاح في بيئة العمل الحديثة.

المرونة في بيئة العمل الحديثة

لم تعد المرونة اختيارية، بل تحوّلت إلى ضرورة استراتيجية. يشمل ذلك: العمل عن بُعد، وساعات الدوام المرنة، والتركيز على النتائج بدلاً من عدد ساعات الحضور. تفترض الأجيال الشابة أنَّ بيئة العمل تكون سامة عندما لا توفر خيارات مرنة.

فوائد المرونة

  • للأفراد: بحسب تقرير "لينكدإن" (LinkedIn) حول توجهات العمل، يشعر الموظفون الذين يتمتعون بمرونة في خياراتهم برضا وظيفي أعلى بنسبة 29%، كما تقل احتمالية تعرضهم للاحتراق الوظيفي بنسبة 63%.
  • لأرباب العمل: شهدت الشركات التي توفر خيارات مرنة تحسناً بنسبة 25% في الاحتفاظ بالموظفين، وزيادة قدرها 21% في مستويات الإنتاجية، وفقاً لدراسة صادرة عن "إم آي تي سلون" (MIT Sloan) عام

التحديات المرتبطة بالمرونة

  • وجود فجوات في التواصل بين الفِرَق العاملة عن بُعد ونظرائهم في المكاتب، مما قد يؤثر على روح الفريق وتماسكه.
  • شعور بعض الموظفين العاملين عن بُعد بالتهميش أو ضعف فرص الترقّي مقارنة بمن يعملون من المكتب.

الإنتاجية في ظل نماذج العمل المرنة

من أبرز التحولات في المستقبل هو طريقة قياس الإنتاجية. لم يعد التركيز على عدد ساعات العمل، بل بات يُقاس بالأداء والنتائج المحققة، وهو تطور يُعد خطوة إيجابية في سبيل تعزيز الكفاءة.

عوامل رئيسة لرفع الإنتاجية ضمن نماذج العمل المرنة:

  • الأدوات التكنولوجية: وفقاً لتقرير من "هارفارد بزنس ريفيو" (Harvard Business Review)، أفاد الموظفون العاملون عن بُعد أنَّ أدوات التعاون مثل "سلاك" (Slack)، و"مايكروسوفت تيمز" (Microsoft Teams)، و"أسانا" (Asana)، و"تريلو" (Trello) عززت كفاءتهم، وجعلتهم أكثر إنتاجية مقارنة ببيئات العمل التقليدية.
  • المساءلة والأهداف الواضحة: ساعد اعتماد أنظمة مثل "الأهداف والنتائج الرئيسة" (Objectives and Key Results – OKRs) و"مؤشرات الأداء الرئيسة" (Key Performance Indicators – KPIs) على توجيه الجهود نحو الإنجاز، بدلاً من مراقبة الوقت المستغرق في العمل.

ولهذا، على المؤسسات أن توفر بيئة عمل توازن بين الاستقلالية والتعاون، من أجل الحفاظ على وتيرة إنتاجية متواصلة.

الرفاه المهني: حجر الزاوية في بيئة العمل المستقبلية

الرفاه المهني ضروري لتحقيق النجاح على الأمد الطويل، كما يسهم الدعم النفسي في تحسين أداء الموظفين وزيادة اندماجهم في العمل.

أبرز استراتيجيات تعزيز الرفاه المهني

  • تحقيق توازن صحي بين الحياة والعمل: بحسب استطلاع أجرته "لينكدإن"، فإنَّ الموظفين الذين يشعرون بهذا التوازن أكثر إنتاجية بنسبة 39%.
  • دعم الصحة النفسية: تشير بيانات من "غالوب" إلى أنَّ 76% من الموظفين يحبذون توفر خدمات الدعم النفسي في بيئة العمل، إلا أنَّ 40% فقط من الشركات توفّر هذا الدعم فعلياً.
  • بناء ثقافة شاملة ومتنوعة: وفقاً لتقرير صادر عن "مكنزي"، تحقق المؤسسات التي تطبق سياسات قوية في التنوع والشمول أداءً مالياً أفضل بنسبة 35% مقارنة بنظيراتها.

وتقدّم بعض الشركات الرائدة اليوم مزايا غير تقليدية مثل: إجازات غير محدودة، وبدلات شهرية للعناية بالرفاه، وأيام مخصصة للصحة النفسية.

تحوّلات في الأدوار والهيكل التنظيمي

تتجه المؤسسات شيئاً فشيئاً للتخلي عن الهياكل الهرمية التقليدية، لتتبنّى نماذج أكثر مرونة تقوم على فرق العمل المستقلة واتخاذ القرار الجماعي السريع. فوفقاً لتقرير "9 توجهات ستشكّل العمل في (2025) وما بعده" (9 Trends that Will Shape Work in 2025 and Beyond) الصادر عن "هارفارد بزنس ريفيو"، تعيد المؤسسات هيكلة بنيتها التنظيمية لتعزيز قدرتها على التكيّف، كما تدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين الكفاءة وتحفيز الابتكار.

ومع تسليم الذكاء الاصطناعي بالمهام الروتينية المتكررة، بدأت المؤسسات تعيد النظر في وظائفها وهيكلها الإداري. فالكثير من الأدوار التقليدية تخضع للتحوّل، وتقل الحاجة إلى طبقات الإدارة الوسطى، مع تولّي الأنظمة الذكية عمليات التحليل وإدارة المهام التشغيلية. تؤدي هذه التحولات إلى بناء هياكل تنظيمية "مسطّحة"، يركّز فيها الموظفون على المهام الإبداعية، الاستراتيجية، والتفاعلية.

لكن، ولتحقيق الاستفادة القصوى من هذا التحوّل، يجب الاستثمار في إعادة تأهيل العاملين، لضمان جاهزيتهم لسوق عمل يزداد فيه الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يوماً بعد يوم.

في الختام

يقوم مستقبل العمل على تحقيق توازن دقيق بين المرونة، والإنتاجية، والرفاه المهني، وهي عناصر مترابطة لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى. فعلى المؤسسات أن تضع سياسات تشجّع المرونة، مثل العمل عن بُعد أو النموذج الهجين، دون أن تغفل أهمية الحفاظ على الأداء والإنتاج. كما يُعدّ الاستثمار في رفاه الموظفين – لا سيّما عن طريق برامج الصحة النفسية والمهنية – ركيزةً أساسيةً لتحقيق النجاح طويل الأمد.

أما على مستوى الأفراد، فتتطلب المرحلة المقبلة وضع حدود واضحة بين الحياة الشخصية والمهنية، والالتزام بالتواصل الفعّال، والسعي الدائم نحو التعلم المستمر. فهذه العوامل تحمي من الإرهاق، وتعزز الثقة، وتمنح القدرة على التكيّف في عالم عمل سريع التحوّل.

وفي نهاية المطاف، لا يتعلق مستقبل العمل بالمفاضلة بين المرونة أو الإنتاجية أو الرفاه، بل بتحقيق انسجام متناغم بينها. فالشركات التي تنجح في هذا التوازن، ستكون الأقدر على استقطاب المواهب المتميزة، وبناء بيئات عمل نابضة بالنجاح والابتكار. فمن خلال تسخير التكنولوجيا، وتطوير السياسات، ورعاية النمو المهني، يمكننا رسم ملامح مستقبل عمل أكثر استدامة وإنسانية.

هذا المقال من إعداد المدرب د. خولة عليوة، كوتش معتمد من غلوباس

کن على إطلاع بأحدث المتسجدات

اشترك واحصل على أخر المقالات والأبحاث والمنتجات التي تجعلك أقوى من أي وقت مضى.
to-top
footer1

is

illaf-train

Business.©2025