5 مفاهيم خاطئة عن الرفق بالنفس
يُعِدُّ معظم الناس التعاطف سمة جديرة بالتقدير؛ لأنَّه يقتضي الرحمة، والكرم، والمحبة، والاهتمام، ومراعاة الآخرين، وفعل الخير، وهو يمثل الرغبة الفطرية في مساعدة المحتاجين، ولكن عندما يتعلق الأمر بتعاطفنا مع أنفسنا، تنقلب الموازين؛ إذ يُعدُّ التعاطف الذاتي أو الرفق بالنفس علامة على الأنانية، أو التقاعس، أو اللامبالاة، أو الشفقة تجاه الذات.
اطَّلِع على هذا المثال الافتراضي لاستيعاب الفكرة استيعاباً أفضل:
يبلغ سامر من العمر بوصفه مهندس برمجيات 32 عاماً، وهو موظف براتب جيد، ولديه زوجة مُحبَّة وأصدقاء داعمين، كما أنَّه عدَّاء متحمِّس ومتطوع مع زوجته في ملجأ للمشردين في عطلات نهاية الأسبوع، وباختصار، يعيش سامر حياة مُرضية.
لكنًّه وبالرغم من ذلك لا يشعر بالاستقرار النفسي منذ عدة أشهر، فهو يعاني من القلق المستمر، والتعب، والأرق، فقدَ شغفه بالجري والتطوع، ولم يعد يقوى على تحفيز نفسه، ويشعر بالفشل والتقصير على الرغم من نجاحه المهني والشخصي، إنَّه يضغط على نفسه لينجز كل مهامه مما يوصله إلى حافة الإرهاق.
اقترحَ معالجه النفسي أن يمارس التعاطف الذاتي، لكنَّه لم يقتنع بالفكرة، فهو يعدُّ الرفق بالنفس علامة على الضعف ونقص المسؤولية الشخصية، ولقد كان دائماً صارماً مع نفسه، ومن الغريب الآن إظهار اللطف والتفاهم تجاه نفسه، فلا يتخلى سامر بسهولة عن نقد ذاته ومعاملة نفسه بلطف، على الرغم من معرفته بأنَّه يحتاج إلى العناية بصحته النفسية.
لماذا نواجه صعوبة في الرفق بأنفسنا؟
هناك عدة أسباب تجعلنا نتجنب ممارسة الرفق بالنفس، ومن بينها:
- المفهوم بأكمله غير مألوف بالنسبة لنا ونحتاج إلى معرفة من أين نبدأ، خاصةً إذا لم يُزرع سلوكات الرفق بالنفس داخلنا خلال مرحلة الطفولة.
- شدَّدت ثقافتنا على مَرِّ التاريخ على أهمية الانضباط الذاتي، والإنكار الذاتي، والعقاب الذاتي لتحقيق النقاء الأخلاقي والروحي، فهذه الأفكار متجذرة في النسيج المجتمعي؛ لذلك قد نشعر بالذنب أو العار عندما نحاول ممارسة الرفق بالنفس ظناً منَّا أنَّنا ننتهك قواعد الأخلاق والأعراف الثقافية السائدة.
- نتعلم منذ نعومة أظفارنا أنَّ احتياجاتنا ومشاعرنا غير هامة، كما يمكن أن نتبنى بعض الأفكار السلبية عن أنفسنا نتيجة تعرضنا لتجارب صادمة، مثل الإساءة العاطفية، أو اللفظية، أو الجسدية، أو الإهمال، مما يؤدي إلى النقد الذاتي العنيف وانخفاض تقدير الذات. يمكن أن ترافقنا هذه المعتقدات السلبية حتى مرحلة البلوغ، مما يصعِّب علينا أن نكون لطفاء ومتفهمين تجاه أنفسنا، وقد تزعزع الصدمات ثقتنا بأنفسنا والآخرين، مما يحرمنا الشعور بالأمان الكافي لممارسة الرفق بالنفس.
لا تعدُّ قصة سامر افتراضية تماماً، فهي مألوفة لكلٍّ منَّا. لدينا جميعاً عيوب، ولا يوجد إنسان كامل، نحن نشق طريقنا في هذه الحياة ونتعامل مع كل ما نواجهه خلال هذه الرحلة.
المفاهيم الخاطئة الشائعة حول الرفق بالنفس
فيما يأتي 5 مفاهيم خاطئة عن الرفق بالنفس:
1. الرفق بالنفس دليل ضعف
تُظهِر أعراف المجتمع القوة والثبات، ويفترض بعضهم أنَّ التعبير عن الضعف يحط من قدر الفرد وينم عن هشاشته، لكنَّ الرفق بالنفس لا ينم عن الضعف؛ بل يجب أن يتحلى الفرد بقدر كبير من الشجاعة لكي يفرض حدوده، ويدرك احتياجاته، ويعطي الأولوية لنفسه.
تشير الدراسات الحديثة إلى أنَّ الرفق بالنفس ليس ضعفاً؛ بل هو أداة قوية للتعامل مع التحديات، وتعزيز المرونة، وتنمية القوة الداخلية. أظهرت الأبحاث أنَّ الرفق بالنفس يعزز قدرتنا على التعامل مع الظروف القاسية مثل الطلاق، والصدمات، والأمراض والآلام المزمنة.
تؤثر الطريقة التي نخاطب بها أنفسنا خلال الأوقات الصعبة في قدرتنا على تنظيم مشاعرنا والتعامل مع الشدائد، فهل تقسو على نفسك وتكثر من اللوم والنقد الذاتي، أم تعطف عليها وترأف بها في وقت الشدة؟
2. يعني الرفق بالنفس الأنانية
يعدُّ الرفق بالنفس تصرفاً أنانياً، لكنَّه في الحقيقة ضروري لكي نكون قادرين على العناية بالآخرين؛ إذ يتمتع كثيرون بقلب مُحبٍّ ولكنَّهم للأسف غالباً ما يهملون احتياجاتهم في سبيل خدمة الآخرين، معتقدين أنَّ ذلك ضروري لشعورنا بأنَّنا أشخاص جيدون. يستنزف الإنسان طاقته العاطفية عندما يستمر في العطاء والإيثار دون أن يلبي احتياجاته الشخصية.
تبرز هنا أهمية الرفق بالنفس، فهو يسمح لنا بالتعاطف مع الآخرين ومع أنفسنا دون أن نستنزف طاقتنا، فيمكننا نتيجةً لذلك أن نهتم بالآخرين بطريقة مستدامة، لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه.
لا يعدُّ التعاطف مخزوناً مادياً، إمَّا تقدمه لنفسك أو للآخرين، فيعتقد بعضهم أنَّ مخزوننا من التعاطف يقل إذا استخدمناه لأنفسنا ولا يتبقى لدينا ما نعطيه للآخرين، وهذا بالطبع مفهوم خاطئ تماماً، فالجميل بشأن التعاطف أنَّه نبع لا ينضب وكلما سمحت له بالتدفق إلى داخلك، زاد ما تملكه وتستطيع إعطاءه للآخرين.
سوف نكون أكثر قدرة على فهم الآخرين والتعاطف معهم عندما ندرك احتياجاتنا ونُشبعها، وهو ما يمكِّننا من التسامح وتقبل وجهات نظر الآخرين، فالرفق بالنفس ليس أنانية؛ بل ممارسة أساسية تفيدنا وتفيد من حولنا. يمدنا الرفق بالنفس بالقوة العاطفية التي نحتاج إليها لمساندة الآخرين، ودعمهم، والمداومة على الاهتمام بهم دون أن نستنزف طاقتنا.
يميل الأفراد الذين يمارسون الرفق بالنفس إلى أن يكونوا أكثر تعاطفاً ودعماً في علاقاتهم الشخصية، كما أنَّهم أقل عرضة لتجربة الغيرة وأكثر احتمالاً للتوصل إلى تسويات خلال النزاعات في علاقاتهم، وتؤكد الدراسات أنَّ ممارسة الرفق بالنفس ترفع تعاطفنا تجاه الآخرين.
3. الرفق بالنفس هو الانغماس في الذات
يعني الرفق بالنفس معرفة احتياجاتنا وتلبيتها لتحقيق التوازن، والراحة النفسية، وتخفيف المعاناة، إنَّه يشبه الوالد الحكيم الذي يفضل مصلحة طفله على المتعة اللحظية، وبمعنى آخر يعطي الرفق بالنفس الأولوية للصحة والسعادة الدائمة على الإشباع العابر، تماماً مثلما لا يسمح الوالد المحب لطفله بتناول كميات كبيرة من الحلوى، ولكنَّه يشجعه بدلاً من ذلك على تناول الخضروات الصحية.
يقارن الفرد نفسه مع الآخرين، ويفرض معايير يستحيل أن يصل إليها، مما يؤدي إلى شعوره بالنقص والإحباط، فنجد أنفسنا نسعى باستمرار وراء شخص أو شيء ما، بحثاً عن التقدير، كما نحاول جاهدين أن نرى أنفسنا بصورة "أفضل من المتوسط"، كل ذلك باسم تقدير الذات.
تكشف أبحاث الدكتورة "كريستين نيف" (Kristen Neff) أنَّ هذا السعي المحموم وراء تقدير الذات العالي، يمكن أن يكون له عواقب سلبية، مثل التحيز والإحساس الوهمي بقيمة الذات، ومن جهة أخرى، فإنَّ الرفق بالنفس ليس شكلاً من أشكال التقييم أو الحكم؛ بل هو إبداء اللطف والقبول تجاه أنفسنا، حتى عندما نقصِّر أو لا نلبِّي سقف توقعاتنا.
يتطلب تقدير الذات المقارنة الاجتماعية والشعور بالتفوق على الآخرين، بينما يشجعنا الرفق بالنفس على قبول عيوبنا بمحبة، إنَّه حليف داخلي مخلص وداعم يمنحنا الراحة ويتفهمنا في الأوقات الصعبة؛ إذ يدرك ممارس الرفق بالنفس أنَّه يستحق الحب والقبول ببساطة لكونه إنسان، وأنَّه كافٍ كما هو.
تشير الدراسات إلى أنَّ الأفراد الذين يمارسون الرفق بالنفس، يطبِّقون سلوكات صحية، مثل ممارسة الرياضة المنتظمة، والعادات الغذائية الصحية، والالتزام بالفحوصات الطبية.
4. يثبِّط الرفق بالنفس الحافز
نحافظ عندما نكون لطيفين مع أنفسنا على معايير شخصية عالية دون الوقوع في أفكار وسلوكات مدمرة للذات عندما لا نحقق تلك المعايير. يخشى بعضهم أن يؤدي الرفق بالنفس إلى الكسل، والتقاعس، والتقصير، ويمنعهم من تحقيق أهدافهم؛ لأنَّهم اعتادوا على إجبار أنفسهم على الالتزام من خلال النقد القاسي والحوار الذاتي السلبي، بالتالي تعوق هذه المعتقدات ممارسة العطف الذاتي.
تظهر الأبحاث أنَّ الرفق بالنفس يعزز الدافع بطريقة مختلفة عن النقد الذاتي، ويحفزنا النقد الذاتي بدافع الخوف، ولكنَّه يحمل آثاراً جانبية سيئة، مثل القلق من الأداء وتقويض دافعنا، فهو يقوِّض ثقتنا بأنفسنا حقيقةً ويؤدي إلى الخوف من الفشل، بالمقابل يتعامل الأشخاص المدفوعون بالعناية والتعاطف مع الفشل باستقلالية، لديهم المعايير والأهداف نفسها، ولكنَّهم لا يشعرون بالخزي من أنفسهم أو يستسلمون؛ بل يتعلمون من تجاربهم الفاشلة ويتحملون المسؤولية ويستمرون.
تشير الأبحاث إلى أنَّ الرفق بالنفس يتفوَّق على النقد الذاتي بوصفه محفزاً شخصياً؛ لأنَّه يوفر البيئة العاطفية الداعمة اللازمة للتغيير، مما يشجعنا على التعلم بدل التركيز على أهداف ومعايير أداء معيَّنة، كما نصبح أقل خوفاً من الفشل والقلق بشأن أدائنا، وأكثر قدرة على تطوير أنفسنا. يوفر الرفق بالنفس مساحة آمنة داخلنا للاعتراف بأخطائنا والتعلم منها، مما يعزز دافعنا الذاتي وإحساسنا بالمسؤولية ورغبتنا في المحاولة مرة أخرى.
5. يعني الرفق بالنفس الشفقة على الذات
تعدُّ الشفقة على الذات والرفق بالنفس مفهومان مختلفان جملةً وتفصيلاً في مواجهة الحياة؛ إذ تعني الشفقة على الذات الاستغراق في مشكلاتنا والشعور بالأسى تجاه أنفسنا، بينما يقتضي الرفق بالنفس الاعتراف بأنَّ المعاناة جزء طبيعي من التجربة الإنسانية والاستجابة لها بلطف، واهتمام، وتفهم.
أظهرت الأبحاث أنَّ الأشخاص الذين يمارسون الرفق بالنفس أكثر قدرة على التعافي من الانتكاسات، والتعامل بفعالية مع الضغوطات والعواطف السلبية، وتجنُّب السلوكات المؤذية؛ إذ يقوم الرفق بالنفس على 3 عناصر، وهي إدراك أنَّ المعاناة جزء من التجربة الإنسانية، واليقظة الذهنية، وتحليل الأمور من عدة زوايا مختلفة، كما أنَّ الأشخاص الذين يمارسون الرفق بالنفس أقل عرضة للتفكير المستمر في مشكلاتهم أو الوقوع في أنماط التفكير السلبية؛ بل تساعدهم وجهات نظرهم المتوازنة على تجاوز صعوبات الحياة.
في الختام
تستمر الأبحاث التي تظهر الفوائد المذهلة لممارسة الرفق بالنفس بالظهور، ولحسن الحظ فإنَّ الرفق بالنفس هو عادة مكتسبة يمكن تعلمها وتطويرها، فهو ضرورة ونحن ندين لأنفسنا بذلك.
يعدُّ التعاطف الذاتي سمة هامة وأداة قوية للتعامل مع التحديات النفسية والعاطفية، فهو ليس علامة ضعف أو أنانية؛ بل هو ضرورة للصحة النفسية والعاطفية. إنَّه يدعونا للتعرف على احتياجاتنا وتلبيتها بلطف وفهم، مما يعزز قدرتنا على تقديم الدعم للآخرين بطريقة مستدامة وصحية، فمن خلال تفكيك المفاهيم الخاطئة حول الرفق بالنفس والتعرف على فوائده المثبتة علمياً، يمكننا تبنِّي هذا السلوك وتحسين جودة حياتنا، بالتالي يجب أن نتعلم أن نكون لطفاء مع أنفسنا، لنعيش بسلام ورضى.
کن على إطلاع بأحدث المتسجدات
