تخيل أنَّه بعد مئة عام من الآن، يزور أحفادنا متحفاً يعرض أشياء يومية شائعة من عصرنا، فما الذي قد يجدونه هناك؟ وما هي الاستنتاجات التي قد يستخلصونها عن مخاوفنا ورغباتنا وقيمنا؟

فكر في برنامج صغير يُباع بشكل كبير على أمازون: محرك الفأرة غير القابل للاكتشاف؛ محرك الفأرة هو جهاز يحاكي الحضور والنشاط، مصمم لإعطاء انطباع بأنَّنا نجلس منتبهين أمام شاشاتنا، ومندمجين في عمل هادف.

يجعل البرنامج الفأرة تتحرك على فترات عشوائية، مقلداً نشاطات النقر والتمرير التي يقوم بها الموظف؛ سيتساءل علماء الأنثروبولوجيا في المستقبل بالتأكيد عن سبب حاجتنا الكبيرة لهذا الجهاز.

في المقام الأول، يعد محرك الفأرة استجابة تكنولوجية لابتكار تقني آخر وهو برنامج مراقبة الموظفين (EMS)، الذي انتشر في جميع أنحاء العالم، ويتضح السبب من الاسم، فبالرغم من أنَّ معظم الأبحاث تؤكد أنَّ العمل من المنزل والعمل الهجين يعززان الإنتاجية والتفاعل ومستويات الرفاهية لدى الموظفين، إلا أنَّ أرباب العمل يخشون أكثر فأكثر فقدان السيطرة على كيفية قضاء موظفيهم لوقت العمل.

العمل الهجين على وجه الخصوص له فوائد كبيرة لعافية الموظفين والاحتفاظ بهم، إضافة إلى ذلك، وجدت إحدى الدراسات أنَّ العاملين في المنزل ينفقون بالفعل أكثر الوقت أمام شاشاتهم، فهم يعملون ساعات أطول ويأخذون فترات راحة أقصر من الأشخاص الذين يعملون في المكاتب، إنَّهم يميلون إلى أخذ إجازات مَرضية أقل، وغالباً ما يعملون في المساء وعطلات نهاية الأسبوع.

مع ذلك، أدى التحرك المتسارع نحو العمل من المنزل خلال جائحة كوفيد إلى تعزيز الطلب على المنتجات التي تقيس الإنتاجية وتقيِّم الكفاءة، بصرف النظر عن مكان وجود الموظفين، فيقيس برنامج مراقبة الموظفين حركات الماوس ونشاط لوحة المفاتيح، ويمكنه أيضاً تتبع وتقييم مواقع الويب التي تمت زيارتها والمستندات المفتوحة والمغلقة.

لعل الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنَّ بعض البرامج تقوم بالتقاط لقطات شاشة عشوائية للموظفين خلال يوم العمل، فيمكن لأرباب العمل معرفة المدة التي تقضيها في الذهاب إلى الحمام، ومتى تأخذ فترات استراحة، ومقدار الوقت الذي تقضيه في مواقع ويب معينة، وقد يتم التقاط لقطات شاشة لك دون علمك في أي لحظة خلال يوم عملك.

تبدو عملية جمع البيانات هذه محكومة بخيال السيطرة الكاملة، كما أنَّها متجذرة في الفكرة الإقطاعية التي ترى أنَّ أرباب العمل لا يملكون وقت موظفيهم ما داموا يدفعون لهم أجورهم فحسب، بل يجب أن يكونوا قادرين على التحكم في حركاتهم وأجسادهم وحتى أفكارهم خلال هذه الفترة من العبودية المؤقتة.

الغاية هنا ليست فقط لمنع الموظفين من هدر وقت رؤسائهم، بل لإيجاد طرائق أكثر فاعلية لإدارة الموارد البشرية واستغلالها إلى أقصى حد.

مكبر يمثل برنامج  لمراقبة نشاط وإنتاجية الموظفين

4 مساوئ لبرامج مراقبة الموظفين

إليك 4 مساوئ لبرامج مراقبة الموظفين:

1. يعتمد هذا النوع من البرمجيات على الخلط بين فئتين رئيستين، هما النشاط والإنتاجية

فالنشاط، مثل تصفح المواقع وفتح المستندات وتحريك الأصابع والأجهزة، لا يُعد بأي شكل من الأشكال دليلاً على العمل الهادف. لا تقيس برامج مراقبة الموظفين جودة أفكارنا ولا كميتها، لأنَّ انتباهنا قد يكون في أي مكان آخر بينما أجسادنا حاضرة أمام الشاشات، كما أنَّ نشاط الفأرة لا يمكن أن يعكس فاعلية وتأثير أفعالنا، إنَّه يسجل فقط الحركة الفيزيائية.

2.التردد في أخذ فترات استراحة

معرفة أنَّ كل دقيقة نبتعد فيها عن شاشاتنا سيتم تسجيلها والتشكيك فيها، ستجعلنا أكثر تردداً في أخذ فترات استراحة لتجديد نشاطنا، وتؤكد كل الأبحاث عن أسرار الإنتاجية البشرية والازدهار أنَّ أخذ فترات استراحة مناسبة أمر ضروري للعمل والتركيز وحسن الأداء، وتزيد المراقبة المفرطة والتطفلية من ترددنا في أخذ الاستراحات التي نحتاج إليها.

3.انخفاض الثقة والاستقلالية في التعامل مع الموظفين

لا يمكن لمثل هذه الأساليب التي تتسم بانخفاض الثقة والاستقلالية في التعامل مع الموظفين إلا أن تؤدي إلى نتائج عكسية جداً على صعيد التفاعل والعافية والروح المعنوية. نحن نعلم أنَّ أفضل طريقة لتعزيز الإنتاجية والتفاعل في أي منظمة هي من خلال بناء الثقة، وتوفير الأمان النفسي، وتعزيز الاستقلالية، ودعم النمو الشخصي والتطوير المهني، وتحفيز الشعور بالانتماء والهدف المشترك. تفعل برامج مراقبة الموظفين نقيض ذلك تماماً، بافتراض أنَّ جميع العمال كسالى ويهدرون الوقت، فإنَّ هذا البرنامج يعامل الموظفين مثل الأطفال الأشقياء الذين يحتاجون إلى التأديب والمراقبة من كثب. سوف يتمرد الموظفون حتماً ضد هذا النوع من العبودية الرقمية المذلة، وبينما قد تؤدي برامج مراقبة الموظفين (EMS) إلى ارتفاع قصير الأمد في الإنتاجية نتيجة الخوف، فإنَّ تأثيرها على الأمد الطويل سيكون عكسياً. حتى مجلة فوربس (Forbes) تؤكد أنَّ برامج مراقبة الموظفين قد تكون مدمرة للروح المعنوية وثقافة الشركة، وقد تؤدي إلى إحباط الموظفين، وزيادة معدل دوران العمالة، وظهور مشكلات أخلاقية وقانونية محتملة.

4. جعلت معظم أماكن العمل الحديثة العمل العميق مستحيلاً تماماً

رغم أنَّ معظم العاملين في مجال المعرفة يجب أن يقضوا وقتهم بشكل أساسي في هذا النوع من العمل. مع الاجتماعات المتتالية عبر زووم (Zoom)، والتكنولوجيا المشتتة بشكل مفرط، وقلة الوقت الذي يقضيه الموظفون دون اتصال بالإنترنت، وعدم القدرة على التوقف عن العمل حتى في المساء، فإنَّ برامج مراقبة الموظفين تفاقم حالة عدم الإنتاجية.

لذا فإنَّ جهاز محرك الفأرة يروي قصة حزينة عن العودة إلى مفاهيم قديمة تتعلق بالعمل، والوقت، والقيادة، والثقافة التنظيمية، كما يشير إلى تصاعد الخلاف بين مؤيدي العمل المرن والعمل من المنزل وأولئك الذين يعارضونه لأسباب أيديولوجية.

أهمية العمل عن بُعد

دعونا نتذكر أيضاً هنا أنَّ العمل من المنزل هام تحديداً للآباء والأمهات وغيرهم من الأشخاص الذين يتحملون مسؤوليات الرعاية؛ الأشخاص - النساء في الغالب - الذين غالباً ما يتم تجاهل مصالحهم، وعلى مستوى أعمق، تعبِّر برامج مراقبة الموظفين عن اعتقاد فلسفي (وكذلك سياسي) بأنَّ الناس سيئون في الأساس ويحتاجون إلى إخضاعهم للانضباط والخوف والعقاب.

تشير الأبحاث إلى أنَّ الاستثمار في صحة وعافية الموظفين، وفي ورش عمل بناء المجتمع، وتعزيز ثقافة الشركة هو خيار أكثر حكمة من برامج التجسس الرقمية، وإنَّ الأساليب التقليدية، حتى الرقمية منها، هي في الواقع بقايا من عصر مضى، وقد تم استبدالها منذ فترة طويلة في أماكن العمل الأكثر حكمة بآليات الدعم والتحفيز الذكية.

إضافة إلى ذلك، يمتلك معظم أرباب العمل بالفعل أدوات متعددة لتقييم أداء الموظفين، ومن ذلك مؤشرات الأداء الرئيسة التقليدية والعديد من المقاييس الدقيقة والمنطقية الأخرى.

الخلط بين مفهومي النشاط والإنتاجية

لكن هنا الفكرة الأكثر إثارة للقلق: ماذا لو كنا من بين المحظوظين الذين لا تراقبهم قوى خارجية بهذه الطريقة، ولكنَّنا بطريقة ما أو بأخرى نعزز ثقافة النشاط طوال الوقت؟ ماذا لو خلطنا نحن أيضاً بين النشاط والإنتاجية، وبين الجلوس أمام شاشاتنا والعمل الهادف؟

لقد أصبح كثيرون منا رؤساء سيئين لأنفسهم، مستعدين للتخلص من لحظات الفرح والراحة والتواصل من حياتنا، ولقد ظهرت أخلاقيات العمل غير المفيدة، والافتراضات المؤذية لدينا عن العمل والوقت قبل ظهور برامج مراقبة الموظفين، وفي الواقع، تعود هذه الافتراضات إلى قرون، تربط الكسل بالخطيئة، والنجاح الدنيوي بالخلاص الروحي، والإنتاجية بغرضنا الوجودي من الحياة.

في الختام

على مرِّ العصور، وخاصة في العقود الأخيرة من الرأسمالية السريعة، ترسخت هذه المعتقدات في عقولنا على شكل برامج مراقبة الموظفين الخبيثة، إذاً، محرك الفأرة الذي لا يمكن اكتشافه هو مجرد عرض، ومظهر من مظاهر استعبادنا طويل الأمد لإملاءات عن الإنتاجية أقدم بكثير وغير مفيدة على الإطلاق.

کن على إطلاع بأحدث المتسجدات

اشترك واحصل على أخر المقالات والأبحاث والمنتجات التي تجعلك أقوى من أي وقت مضى.
to-top
footer1

is

illaf-train

Business.©2025